نشر المقال في العدد (112) من جريدة صوت بخديدا الثقافية تموز 2013
تكونت قصيدة انسجامات (مجلة شرفات، العدد الثاني، 2012، الموصل، عراق ) من عدة مقاطع متصلة في مغامرة متكاتفة في عتبة عنوانها، على نحو تجعل النموذج الشعري يخوض تجربة تتوسع فيها الدلالات ليتوزع المصدر اللغوي الرئيس بحثاً عن الفكرة التي رسمت في سياق متني صريح لإنتاج حوار شعري بين اثنين، إذ أنتج التشكيل حواراً مباشراً في التعبير عن مجال الرؤية التي تتكثف فيها الصيغ في مستويات السياق الدلالي ، لتؤدي وظيفة تسمو بفاعلية اشتغال قصوى نحو نشاط عال المستوى :لم يكن يصغي إليها ../ كان يلقي في البحر فتيل لهبٍ،/ فيشتعل الموج .../ لم تكن تصغي إليه.../ كانت تردي/ غلائل بنفسجيةً/ وتبصر في المرآة خرائط الوجود../ في الصباح التقينا دون كلام / قالت عيناهُ .. لم أنم شوقاً/ وقالت عيناها :لماذا إذن ؟!
بدأت القصيدة بأداة الجزم ( لم ) التي تعمل بفاعلية على ثلاثة مستويات : نفي وجزم وقلب، معبرة عن تشكيل شعري في تجربة تتضاعف لها الحركية لتتضح فيها علامات اللحظة الشعرية المتأثرة بالحوار الذي تجلى في عدم الإصغاء إليها ، جاء الوصف مباشرا في خطاب شعري معبر عنه بـ (كان يلقي في البحر فتيل لهبٍ) من اجل توسيع الأدوات الشعرية التي عملت على تشكيل حجم الصورة التي عمدت الذات الشاعرة لإنشائها عبر فراغات متعددة تفتح مجالا للتلقي وتشتغل عليها الذات في تنوع وتعدد لكي يكون حاله (فيشتعل الموج )متصلا في عملية الإلقاء من قبله تجاه البحر الذي يأخذ المساحة الأوسع والأكبر حجما ليكوّن الدلالة الشعرية في الأشكال الموسومة التي عمدت إليها الشاعرة (كان يلقي في البحر فتيل لهبٍ) فكيف سيشتعل اللهب في الماء ..؟ تلك هي المفارقة التي شكلت هذا المقطع عبر حوار ضمني يضمر فاعلية قول مسكوت عنها إلى أن تتحول اللقطة في عدم الإصغاء إليه وتتضح الصورة في تشكيلها ورسمها الشعري في منطقة الجسد ليكون الخطاب متحركا حركة ذات بعد رومانسي مرسوم في (كانت ترتدي غلائل بنفسجيةً) عبر سياقات التعبير والنسق العالي تتصدر فيه صورة المرآة وهي تتشكل على مرآتها من خلال عملية الإبصار في ( خرائط الوجود ) في حركة تتسع فيها الصورة الشعرية لترسم السياق والتركيب في سلسلة تصورات يتجلى فيها الحضور في الوقت الزمني الذي جاء فيه ( في الصبح التقينا ) ، حتى يمتلك الصمت حضوره في اتساع المدى النفسي الذي امتد زمنه بحكم ساعات الانفصال التي هيمنت على الطرفين ويكون الكلام علنا من خلال سيميائية العيون ، ليأتي حضور الشوق في تمركز مكثف ، وقوة مشتعلة في إمكانية السؤال (لماذا إذن ) الذي يخفي طاقة مضمرة . إن الحوار يدفع القارئ لإدراك القيمة التي عبرت بها الذات الشاعرة عن مشاعرها بتوظيف أدواتها وتنشيط القول وتماسك كلمات الحوار في رغبة تؤسس خطابا أصيلا يتجلى ايجابياً لما تمتلكه هذه الدوال من وصف في تكوّن النموذج اللغوي الشعري في التفاعل لإنجاز لغوي يحقق القدرة على تفاعل الفكرة التي احتشدت فيها مشاعر محتدمة واشتباكات جعلت من المسكوت عنه محركا للفعل الشعري الذي أحال على القيمة والفعل الرمزي :
غابَ طويلا حتى أرهقتها الظنون/كانت المتفجراتُ في كل مكان تردد اسمهُ/ في أذنيها/ حينما حضرَ،/ ارتمتْ على لغمِ صدره وعمَّ السكون ..
تشتغل أدوات النص في ساحة مفعلة في انتظار أصبحت دوامته الإرهاق الذي أدخلها في مجال (الظنون) ليكون البعد بينهما مرافقا لرؤية آثار مكابدة المكان فيما يدخل الصوت المخيف المتمثل في ( المتفجرات ) التي تميل إلى الفزع والضيق ، يتجلى حضوره ليكون وصفها بـ (ارتمتْ على لغمِ صدره وعمَّ السكون) ، جاءت اللغة نابضة في نداءات توظيف جسدت فيها المجال الجسدي ليكون المحطة التي من بعدها يعم السكون ، ما هي الا مساحة لغوية تشكلت في اتساع صوري ينطوي عليه فعل القراءة المتعمقة للشعر منتجة القول النقدي ، في أكثر من مجال توسعت القصيدة ليؤسس أنموذجها في ابتكار تعبيري ليكون مستوى الحضور الشعري هو خلق لرؤية تتمتع بها وتشتغل عليها أدوات النص في تعاقب لغوي متماسك منتج صورة شعرية داخل مساحة النص الذي تنوعت فيه الحساسية التي اكتنفتها ظروف متنوعة من حوارات حب واختلاف وائتلاف و متفجرات داخل المكان الذي يعتبر الفضاء الأوسع في الفكرة المشحونة ببعد تقاني خصب محمل بالحنان والشوق توسعت فيه الذات الشاعرة داخل النص الشعري :
غاب طويلا هذه المرة /اخبروها انه في قائمة المنفيين /لم تدرِ لماذا ..؟؟/ أقفلت أبوابها وراحت تنتظر/ يوم عاد لم يجدها/ وجد في سريرها حجرا بهيئة وجهِ ،/ وحسداً بهيئة جذع / وغصوناً تدلت منها عناقيد دمع يضيء..
يدخل النص الثالث في دوامة على مستوى أعماق النفي الذي أصبح به من ( المنفيين ) اذ يحمل النص دلالات من تجربة اكتسبت فيها الحركة لسماع الخبر الذي جاء في غيابه لتدخل الفترة الزمنية في مسارها الطويل لتشكيل المستويات المركزة فيها ، مؤكدة الخبر الذي جاءها في الفعل الماضي المتحقق (أصبح من المنفيين) ، متحولة إلى صيغة السؤال بـ ( لم تدرِ لماذا )، تدخل التجربة سياقها اللغوي التشكيلي ليكوّن فعالية تفيض طبقاتها بصور شعرية جوهرية عمدت إلى رسم العلامات الاستفهامية التي تعمل على فتح الأفق القرائي على أجوبة متنوعة ، ولا تقف عند حد .
جاءت حركة النص في عملية إقفال الأبواب ليكوّن الانتظار الذي كشفت عنه الذات الشاعرة ، لكي يكون التحليل والتفسير والتأويل مراهِنة على ان تبقى في حالة الانتظار التي تكونت عبر جمالياته الشعرية المكثفة في ( يوم عاد لم يجدها )ودخل الدال الزمني ( يوم ) في العودة التي لم يتمكن من لقائها ، وتكونت الدلالات اللغوية والتقانات التشكيلية بحضور خطابي مشروع رسمَ المكان ليجد في سريرها المادة التي برزت في أنموذج رؤية تشكيلية كونت مساحة لغوية لتأويل حجر بهيئة وجه فكيف تمت عملية التحول من وجه حي لحجر بطول المعاناة المرة التي عاشها انتظار امتص القلق حياته ،استعداداً لحالة نظمتها بطريقة تشكيلية كان فيها الجسد بهيئة جذع وجعلت الشخصية في تكوين مخالف لإنسانة حية كانت تحب وتنتظر، بل تمت عملية التحويل من الانسنة إلى التشيؤ الحجري والخشبي مما يصور المأساة الحقيقية للإنسان المعاصر في ظل الحضارة المادية التي استلبت إنسانيته . وحرمته حقوقه في العيش بأمن وسلام ، فكان التحول الإبداعي يجري بحركية متدلية وطريقة اختزالية وسطوة مارست فيها اللغة تشكيلا لترسم منها ( عناقيد دمع )تمثلت في أنموذج شعري عبر شبكة تشكيل مضيئة كشفت عن خطاب شعري يستحضر الدلالة والصورة الجمالية :
كانت ليلة فادحة ../ لم يكن الصراع حول الإرهاب / ولا حول استفحال أمريكا في أمركة العالم/ كان حول شعرها الطويل تريد أن تضفرهُ،/ وهو يريدهُ مظلة تلم شتات الكون .../ في الفجر انفض الخصام بانسجام ../هو إلى الشارع وشعرها إلى سلة المهملات .
توسعت اللغة لتكون الليلة (فادحة ) في تشكيل لغوي بآلية ورؤية تركبت فيها البنية الدلالية في مستوى وصياغة صورية لتنفي صراع الإرهاب ، إذ أن التشكيل الشعري سار في توليد الدلالة وعن عناصرها بلسان المتكلم حول استفحال أمريكا في أمركة العالم ،بل وتحويل الصورة إلى مسار الجسد بوصف (كان حول شعرها الطويل تريد أن تضفره ) تمكنت فيه الإفادة من فضاء الألم على تعميق التدليل والتشكيل والتصوير لتجعل الآخر يمضي إلى الشارع وشعرها إلى سلة المهملات في تكثيف اللغة وتوسيع الرؤيا بالرغم من ضيق المكان ، حتى تتقابل المفارقة حادة جارحة ، شوق فادح وشعر يظللُ الكون ويكون علامة حنو وتوحيد يُرمى في سلة مهملات ، وحبيب إلى الشارع في لحظة انفصال كاسرة للتوقع .
سدّد خنجره إلى الريح ،/ فسال الدم من بين أصابعي ../سألته بذهول ../ كنا نبحث عن الحقيقة ،/ وكانت هي تبحث عنا ../ فلماذا لم نلتقِ ..؟/ قال : ما شأنك بها ../ هي مخلوق بألف وجه ..؟./ قلت : أريد أن اهمس بها في أذنيك ../ لعلها توقظ الغزلان النائمة في براريك ..
جاء توجيه الخنجر في عملية تحدٍ للريح التي لا يحدث فيها اي الم ، بل يتحول للجسد ، جسد الشاعرة التي تمسك بيدها مفاتيح الخطاب ، والتي أدت الى رفع الأنساق الموضوعية والذاتية نحو الجسد (فسال الدم من بين أصابعي) فهذا المكان الجسدي حر توسعت فيه اللغة واحتشدت بشبكة من الدوال لـ ( سألته بذهول ) ، جاءت أدوات السؤال بشيء من الغرابة ، تفرزها الحساسية بتشكيل لغوي للبحث عن الحقيقة ، في حين أن التمركز اعتاد القوة في حركة الريح بسؤالها عنهم ، تقدمت الصياغة واجتهدت التفسير بالسؤال عن الريح وسؤال الريح عنهم ، أنتجت العلامة من هذا التشكيل الشعري بصيغة السؤال ( فلماذا لم نلتق) ، ليكون الرد في تحقيق الطاقة الشعرية الصورية مجيباً عنها ( هي مخلوق بألف وجه ) ، جاء النوع بآلية العاطفة شديدا لتتعدد مرئية الصورة في وجوه مختلفة لهذا المفقود ، قياساً مع الجواب الذي أضاف للنص القيمة التشكيلية وتصويرها اللغوي بآلية الهمس التي اعتبرت السمة المضافة لهذه اللغة وصورها لتجعل وتعد الحركة لشيء ساده الخمول الذي جاء بوصف بـ (أريد أن اهمس بها في أذنيك .. لعلها توقظ الغزلان النائمة في براريك) . إذ يرتد الجواب في الحوار على الرجل تلميحا بلوم لاذع لم تعلن الشاعرة عن أسبابه ليبقى النص مفتوحا على تعدد القراءات:عارية إلا من ضوئك ../ جريئا يتسلل إلى سريري / يشعل في عتمة الكوابيس جنون الفتنة/ويعزف في الفضاءات النائمة موسيقى المصابيح ..
تناسقت الحالات لتكون الحالة الرئيسة في هذا النص داخل مكان محكم يسوده التشخيص الذاتي بوصفه (عارية – يتسلل ) ذاتا لصياغة الجوهرية والتعبير الذي اكتسب الاستخدام بلغة التفاعل بان (يشعل في عتمة الكوابيس جنون الفتنة ) ليتم التحول من المكان الأرضي إلى فضاء آخر أسمى ، فضاء تشخيصي توسعت فيه اللغة لتشعل و( تعزف في الفضاءات النائمة موسيقى المصابيح )،وهذا النوع من التعبير ما هو الا ابتكار لغوي عمد إلى تحريك الدلالات داخل عمل إبداعي تفوقت به الذات الشاعرة داخل النص :الغصون التي نامت على انهمار الصواريخ ليلة أمس /استيقظت جذلى على رقص خيوط النور /متسللة لزنابق وهادي..
بدأت النص بالغصون في الصورة الاستعارية (نامت) التي فيها مسارات اللغة الى حركة سقوط وانهمار ذات صياغة أصبحت فيها ( الصواريخ ) مؤلمة ضارة في فضاء هذه (الليلة) إذ وظفت الشاعرة الكشف عن الدلالة بشفافية العاطفة ليكون التعبير ( استيقظت على رقص خيوط النور) جاء الكشف بتشكيل لغوي كان يتسلل الى زنابق الوهاد بأجمل عطورها وسمو تمركزها في جماليات جسد الأنثى ، وأخذت الصورة فاعلية استثنائية بما يخفف الوجد من خلال هذا التقابل التضادي الخلاق : انهمار الصواريخ ورقص خيوط النور :
يا الهي ..../ما أجمل الشمس ../ إنهم يحاصرونها بضراوة ../ لكنها تطلع كل يوم ...
جاء النداء متضرعا ومشوبا بالاستغراب ليس من جمال الشمس حسب ، بل من إصرارها على الحضور متحدية كل عوامل السلب ، فذهبت محاصرتها الى تأويل عالٍ بمستويات الواقع والوهم على تجارب الحالات في ذاكرة الذات الشاعرة لتعطي مساحات واسعة للدوال التي حملت هذه الدلالات الشعرية داخل النص كاشفة عن محاولات تحدي هذه الشمس بأنها ستذهب سدى لان الشمس : ( تطلع كل يوم) دون أن تأبه بما يكتنفها من عقبات:في وحشة الليل اكتشفت انك مجرد وهم / واني وهم آخر ../ لكنه وهم يشتعل في حقول التمني ../ وحينها أسالك / أحقا أن الكون يقوم على الأفراد ..!!
جاءت الوحشة في الليل بتكثيف حواري مع الأخر بأسى صوفي يعلن عن كون الحياة مجرد وهم ، وأن هذا الحضور الإنساني الحركي سيؤول إلى زوال ، كونه وهما وهي وهم آخر ،اذ كشفت درجة المساحات الشعرية مدى التمركز في قلب الحدث لتحيد التشكيل اللغوي الملائم من اجل دخول حقل السمة البارزة فيه ( التمني ) فضاءً تتكون فيه الأشياء متحولة إلى اضاءات بدون تحقيق لهذا الفضاء المعلن في ( حقول التمني ) ، جاء سؤال الذات الشاعرة بتدليل لغوي وتجربة وذاكرة حرة في الإعلان عن الحالة التي تعيشها كاشفة عن حقيقة مرة مفادها أن هذا الكون قائم على الأفراد بصيغة التعجب (!!)، حيث اشتغلت الذات الشاعرة في النص للتعبير فنيا عن مرارة الشعور بالخيبة والاغتراب .