(الوصف بين تشكيل الصورة ورؤية الذات )
دراسة نقدية في قصيدة (مطر اليقظة)
للشاعر بهنام عطاالله من مجموعته
(هكذا أنت وأنا وربما نحن)
لؤي ذنون الحاصود
جامعة الموصل
مدخل نظري
إن التشكيل الوصفي ينهض على عملية الوقوف عند الملامح الخارجية لموصوف أو الموضوع الوصفي الواحد، وينشأ استناداً الى ذلك عدد غير كبير من الموضوعات التي تقبل الوصف 1، ويعد التشكيل الشعري ناقلاً للأشياء والافكار في مجال الاطار المعنوي والاطار الحسي في عوالم شعورية متنوعة2، بل يحتشد شبكة من الفعاليات وآليات العمل في خط مشروع شعري واحد يدخل بين المتضادات ويصالح بين المتنافرات لينتج طاقة تشكيله الشعري3، لذلك تدخل "اللغة الشعرية عبر تفاعلها مع آليات التشكيل طاقات مكتسبة جديدة تزيد من فاعلية وصفها وعمقه واتساعه ودفقه، بحيث تقترب كثيراً من الايحاءات بالشكل أكثر من التغيير والايحاء بالمفرد"4، اذ تتولى القصيدة بناء صور متعددة في رسم صورة شاملة داخل النص5، وتتشكل الرؤية في النص السير ذاتي بحكم حالة التوحد والتطابق المفترض وجودها بين الذات الراوية وتشكيل الصورة داخل النص6.
الصورة اذن بناء لغوي يتج عن علاقة بين الكلمات داخل السلسلة الكلامية فما " الا تجسيد لفظي للفكر والشعور ، وما قالبها التمثيلي الا مظهر لمركب عقلي وعاطفي"7 .
تضمنت القصيدة تمازجاً وتفاعلاً نصياً في آليات التوظيف للصورة الشعرية في عالم الوصف، أذ تنهل الفكرة في اطار وصفي تكشف وظائفها الشعرية لآليات توظيف مستويات النص التي ترمي الى تحقيق اقتطاف التشكيل ورسمه كفضاء يكون فيه الوصف علامة وركيزة اساسية تشتغل عليه اللغة :
مسلةٌ...
ما زلنا نصوغ نصوصها
من بقايا القديسين
ومن ضوء المصابيح
خرافة بيضاء
لا تمحو من ذاكرة الكون
عطورها تجتاح اناشيدنا الهاطلة
مع مطر اليقظة.8
أخذت الصورة الشعرية في تشيدها على صياغة تشكيل النص من (بقايا القديسين) لتجعل من الادوات النصية صورة ثانية (خرافة ضوء)، وتقوم على بنية للإرادة التي تتركب منها هذه القصيدة لتدخل ال (لا) في توثيق لعملية الذاكرة الكونية لطيور تجتاح الاناشيد مع قطرات الحياة المتمثل بـ (مطر اليقظة)، يبني الشاعر قصيدته على الحالة الشعورية التي جعل من مكوناتها اساساً لمستويات نصية اخرى تتلائم وتتناسب مع الترتيب في التشابك الدلالي الذي انطوى عليه الافق الشعري في نطاق حر، اشتغلت عليه الذاكرة الشعرية وتداخلت عبر تقانات النص لتتيح فيها الدلالة والاثبات الشعري لهذه الصورة :
هكذا كل شيء يمضي ملوناً
في أحضان الكلام
واغاني الفجر
أصابع النهارات
والفوضى المربكة9
اتضحت الصورة الشعرية من خلال التواصل مع النص الذي انتجته القراءة في كشف دائم ليكون (هكذا كل شيء يمضي ملوناً)، اخذ الاختلاف شكلا ومضموناً للهيئة الشعرية في الترتيب والتحشيد لدلالات النص ان تجعله في احضان الكلام ، مع استمرار التحرير الكتابي بأبعاد النص الشعري (لأغاني الفجر) ماراً زمنياً للصوت الهادئ في هذا الوقت المحدد بـ (الفجر) ليتحول الزمن جسدياً بشكل جمالي شعري وتأخذ من النهارات التشبيه لأصابع البشر، وهذا التشبيه فعّل من قدرة النص على ان تكون الصورة الشعرية ذات تشكيل جوهري، الى المنطقة التي تتيح للطاقة اللغوية التفعيل الشعري المقبول، والفوضى المربكة في حضور قوي يجعل من الاشياء في اطار انتشار غير مرتب في حركة غير مستقرة تشوبها الضوضاء في تطلعات الصورة الشعرية التي اعتمدها الشاعر في مساحة النص:
انه بحثٌ دائمٌ
عن كلمات رشيقة
مثل رشاقة أمي
الساقطة من نبض الفردوس
فهي بهجة تهندم أسمالي
تُهندسُ أعضائي ... تُرتبها
قطعة .. قطعة10
تسير المنظومة الشعرية التي تكرر في صياغة النص الى الكشف والبحث عن انتاج الخاصية التي ترسم طريق البحث من خلال الدلالات والتقانات التي وظفتها الذات الشاعرة داخل النص، جاء الوصف بصورة (رشاقة) خصصها بتشبيه انفتح على تجربة في ( نبض الفردوس)، لتكون الحالة الشعرية في مساحة تجعل من الذات الشاعرة ( تهتدم أسمالي) هذه الوظيفة جعلها خاصة بها لتشتغل في توصيل الاشياء بدلالات قوية ذات امكانية الاثر في الصورة الشعرية التي جعلت من الذات قياساً لتنوير المعنى والدلالات على شكل حركة داخل فضاء النص إليه (تهندس أعضائي ، ترتبها قطعة قطعة )، إذ ان مستوى التوليد الدلالي في البعد النصي دقيق وعميق وشامل، إذ وظفت الذات الشاعرة التشكيل الشعري بخطاب نصي تقوم عليه العلامات التي اسست النص في تشابك وتعالق دلالي نصي:
تُهذب بصماتي
على سلة أوراق مهملة
حرائق تلوذ في معطفي الشتوي
لئلا يبتل بماء النهر
من عطرها المؤثث بالضجيج11
تنحو الذات الشاعرة في سكة تعبيرية تعمل على اليات تضمنت عمليه التهذيب في صورة جسدية بـــ( بصماتي ) من خلال منظومة تأليف الكلام ان تأخذ منها الى سلة اوراق مهملة، أن الشغل الشعري كلياً هو في زاوية تحقيق الغاية التي جعلت منها الحركة في تحقيق الفعل اللغوي لتشكيل الصورة الشعرية في ضربة اسست الحلقات التي دارت بها القصيدة، لتكون الحرائق لائذة تسعى الى الابتعاد عن الابتلال بالماء، إذ إن التشكيل الشعري ما هو إلا تعميق وتركيز العتبات النصية في شكلها معبرة بعطرها خاصية الضجيج في خطاب وظفت فيه التجربة الشخصية لذات الشاعرة، متخذاً من الوصف اداة تعبير على المستوى الذي يظهر فيه المشهد العاطفي للميراث الشعري في سياق تشكيلي في المعنى الانساني الذي جاء مشحوناً بالانفعال والحيوية في تركيب اللغة الشعرية بفعالياتها ونشاطاتها في الخلق والابداع:
ابتسامة ثكلى
وقامة تطوف على شامة النهد
شَعر كأمواج المحيطات
يقاضي مودتي
يدغدغ نبضي
تُبعثر أبجدياتي12
الجسد وما ترسم عليه الذات الشاعرة في مسارها الشعري، ما هو الا انطباع الفن في حلقات شعرية تجعل من ( الابتسامة ثكلى) تسعى الى توصيل طبيعة الجسد في رسم هذه الصورة في (طواف القامة على شامة النهد)، التي انطوت على كيفية لإخراج واظهار الشكل الشعري بوصف تجعل منه مشهد عاطفي رومانسي في بعد دلالي حركت فيه المشاعر، والعلامات الجسدية بتوظيف مميز جاء بهذا الرسم :
ابتسامة -------> ثكلى
قامة --------> تطوف -----> على شامة النهد
شعر يتفرع الى ---> كأمواج المحيطات --- يقايض مودتي --- يدغدغ نبضي --- تبعثر أبجدياتي
مطر للندم وأخرى تركن
فوق قصيدة لم أحلم بها
أكممها بما تتسع أجنحتي
يستيقظ وهجي
فمنذ عصور13
إن الإيحاءات المستخلصة من ( المطر) ماهي الا تمثيل للحياة جعلت من الاشياء تتراقص عبر قوة قلم الذات الشاعرة في صدفة تتبلور منها الخاصية الاكثر دلالة وتشكيل شعري عالٍ توجد بها الحالة الشعرية لهذه الحياة المستخلصة، ووظفت الذات الشاعرة الصورة الشعرية داخل النص ما هي الا كشف حرر تفصيلي عاينت بها الآليات الطبيعية، لتكون فوق القصيدة التي ربطت اداة الحلم بها لحراك الحياة اليومية، فجعلت الذات الشاعرة منها المميزة في تكميمها واصفاً مجال العمل بما تتسع به الاجنحة، وتجعل الوصف الآخر والاستيقاظ بصورة شعرية في زمن شعري قد مضى ، قادته ادوات الذات الشاعرة النصية في رؤية حركة الاحساس بعاطفة ازدحمت فيها الصيغ التعبيرية لتدخل التشكيل الشعري لهذا النص، فالعلامات تمثل حركة ادوات الذات الشاعرة التي وظفتها بلقطات صورية شكلت من خلالها مرايا الاعماق في تصوير الحال الشعرية في هذه التجربة التي ارتبطت في محاور جعلت من النص اداة فاعلة ومركزية:
كأن مجدي يتبعثر كالسدوم
يتوسل لمدن الصحو
يفتح مجاهيلها
يقرأ طالعها/ يغزو بواباتها
إنها دائماً
ترتبُ خرابي وبقايا صمتي
في أقاصي الكلام14
يأخذ المجال الوصفي خاصية الحركة التي تحيل فيه حالة التبعثر في دلالة ظاهرة (كالسدوم) وتعمل عميقاً في تجربة التوسل للفضاءات المتمثلة بـ ( المدن الصحو) تجعل منه تكثيف شعرية النص التي تصدرت به عملية الفتح لــ ( مجاهلها) متخذة من القراءة لطالعها في تحقيق شعري ذاتي، في مرحلة التأريخ الفعلي الذي تسمو به كتجربة في الديمومة التي تحولت من التبعثر الى حركة الترتيب، انها دائماً ترتب خرابي ، وبقايا صمتي متخذة من الكلام (أقاصي الكلام) في حدس شعري لجوهرة متوجة جعلت منها اتخاذ البياض الذي يتصف بها المجد ليتجلى عبر صورة شعرية واضحة المعالم تغذيها رؤى والأحلام.
الهوامش ...
1- قضايا السرد عن نجيب محفوظ، وليد النجار، منشورات دار الكتاب اللبناني، المكتبة الجامعية، ط1 بيروت 1980: 149.
2- ينظر : النافذة والمرآة، دراسة في شعر سعدي يوسف ، د. سمير خوراني ،دار الفارابي للنشر والتوزيع ،بيروت ط1 ،2007: 47.
3- رؤيا الحداثة الشعرية نحو قصيدة عربية جديدة ، أ. د محمد صابر عبيد ، امانة عمان للنشر والتوزيع ،عمان ، ط1 2005 :221
4- المغامرة الجمالية للنص الشعري ، أ . د محمد صابر عبيد ، عالم الكتب الحديث، للنشر والتوزيع، اربد ،عمان 2008: 257.
5- ينظر : النافذة والمرآة : 138.
6- ينظر : انساق الميثاق الطوبوغرافي : السيرة الذاتية بالمغرب العربي انموذجاً ، حسن بحراوي ، مجلة آفاق المغربية ، العدد 3-4 ، لسنة 1984 : 40.
7- واقع القصيدة العربية ، محمد فتوح احمد ، دار المعارف للنشر والتوزيع ، ط1، 1984: 119.
8- هكذا انت وانا وربما نحن، بهنام عطالله ، تموز للطباعة والنشر، سوريا ، دمشق 2012 : 17.
9- هكذا انت وانا وربما نحن :18.
10- هكذا انت وانا وربما نحن:18.
11- هكذا انت وانا وربما نحن: 18.
12- هكذا انت وانا وربما نحن :18-19.
13- هكذا انت وانا وربما نحن : 19-20.
14- هكذا انت وانا وربما نحن: 20.