من خلال تتبع خارطة نصوص الشاعر صليوا حبش ومتابعة ومنحنياتها، يظهر مدى تمكنه من كتابة القصيدة العمودية، علماً انه لم ينشر اغلب قصائده، بل ركنها جانبا الا ان رأت النور عام 2007 (*). انه شاعر مرهف الحس ذو عاطفة جياشة، محاولاً النحت بالكلمات نحتا فنياً ولغوياً، منحازا ً نحو جمال القصيدة، مشتغلا على وفق رؤية واقعية، ذلك لأنه يمتلك لغة سلسة واضحة بعيدة عن الإبهام والتأويل، يحاول من خلالها أن يفتح نوافذه على مصراعيها أمام المتلقي، ليتتبع الحدث المطروح، فكتب الشاعر قصائد في وصف الطبيعة وجمالها، فها هو يقول في قصيدته (الظبي الشرود):
يا من سلا عهد الصبا فتوهما
مرنا إذا جن الظلام وخيما
أبقيت شمل المغرمين مشتتا
بصدودك المحني الجوى فتخرما
فإذا أعرجت الفجر في حي الهوى
تلقين زهرا كان توا محرما
فتبسمت مهج الشباب تجتوبا
لصدى محب أمسى خلا مغرما
الله در كواكب الزرقاء عند
طلوعها كم أشبهتك تبسما
فتراه في قصائده يصف الأشياء وصفاً فائقاً، يتخللها مسحات جمالية أخاذة، محاولاً التوغل في جسد القصيدة بكل دقائق الحدث : فيقول في قصيدته (سجن العشاق):
غرقت ببحر الحب وهو عرمرم
فألفيت غرقاه تئن وتبسم
فقلت : سلام من محبيكم ، واتى
يرفرف الرأس وهو يسلم
فقالوا : صحيح أم خيال من الهوى
أتى ينزل الأوهام فينا ويفعم
قلوبا براها الهم والشوق والنوى
بشتى ألاماني نشقى فيها ونحلم
ولعل أروع ما كتبه قصيدة عنوانها (أهلا بسيدنا) والتي ألقاها بتاريخ 14 كانون الثاني من العام 1960 بمناسبة أول زيارة قام بها المطران الراحل قورلس عمانوئيل بني مطران الموصل وتوابعها للسريان الكاثوليك إلى بخديدا، بعد ترقيته لهذا المنصب .فبعد زيارته لدير مار بهنام الشهيد هرع أهالي بخديدا بالسيارات وسيراً على الأقدام إلى طريق الدير حتى (وادي حندولا) فاستقبلوه بالتراتيل والصلوات حتى كنيسة الطاهرة، وفي فنائها قرأ الشاعر صليوا حبش قصيدته هذه، والتي صفق لها الحضور كثيراً . يقول فيها :
قره قوشُ أمُ المكرماتِ وفخرها
تستقبل القلب الكبير حنونا
وتهنئُ الأبَ راعيا ً ومنظما ً
لشؤونها وتريدُ فيه ُمعينا
يا سيدي أهلا ً بمقدمكَ الكريم
جموهنا ترعى العهود مكينا
إنا جنود الناصري ، سلاحنا
علم النصارى عاليا مصونا
شرفتنا مُذ قدمت ديارنا
أنت المدبر كلنا تحمنا
ارفع صليبك وباركن أطفالنا
وزروعنا وبناتنا وبنينا
كل الرعية تطلب العمر المديد
لكم يكلله المسيح مُعينا
كتب الشاعر قصائد من صميم حياته وعلاقاته الاجتماعية، حيث حاول طرح كل ما يجول بخاطره وتحويلها إلى قصائد من الواقع الذي عاشه مع أصدقائه ومحبيه وخلانه، فها هو يقول في قصيدته (دمعة على فراق)، والتي كان قد كتبها الشاعر في الستينات من القرن المنصرم لمناسبة نقل احد زملائه من المعلمين والملقب (أبو فتحي)، وفيها يكشف الشاعر لواعجه له ولزملائه، حيث سيلاحظ القارئ توارد أسماء عدد من زملائه الذين عاشوا معه فترة عمله في التعليم .فيقول :
حيوا (أبا فتحي) يصول ويهجم
تستيقظ الآمال فيه وتنعم
يا بلبلا تتشوق الدنيا له
مهلا فأكباد الاخلة تقضم
ماذا أقول فتية من حبهم
لوعتهم أفهل تعود ترنم ؟
فـ (أبو محمد) في أس من شوقه
طار الهزار محلقا لا يرجم
أيشق الأذان إلا منشد
حفظ الغناء هواية مرنم
و(أبو مهند) في صفائه سماعه
متـثراً يبكي طويلا يلطم
(معد) يصوغ الشعر فياضا وكم
قد ردد الشعر الرصين منغم
(بهنام) لا تبكي لفقدك مطربا
ستدور أيام ويشرق مبسم
وفي مجال الشعر الديني دبج الشاعر قصائد في روعة الجمال والمعنى الروحي والإنساني والكوني، وهذا ما يلاحظ في قصيدته الموسومة (الصليب) إذا يقول :
رفع الصليب مساعداً ومعينا
فشفى عليلا ً بالذنوب طعينا
من ذا الذي بقساوة وغشاوة
جعل المسيح بثقله ممحونا
فتواترت وقعاته متشكيا
وهو العلي ، متواضعا ليرينا
من كبرياء أبينا ادم والذي
وطأ الوصية كبره فأهبنا
فأحب رب العالمين عباده
وفداهم صلبا فذاق منونا
وفي قصيدته الموسومة بـ (المرتع المأمول) والمنشورة في مجموعته الشعرية : (ربيع العمر) (2) يحاول الشاعر فيها طرح ما كان يداعب نفسه ومخيلته من شوق كبير نحو الحبيبة، وفيها رمته الليالي، وهو يرنو ويشكو ويذرف فيها دموعه عند المغيب، محاولا تحريك لواعجه وحنينه الجارف نحوى الأحبة فيقول:
رمتني الليالي فعلهن عجيب
فلا الخل يرنو أو يحن حبيب
إذا غابت الشمس التي قد الفتها
فدمعي سخينا من عيوني يصوب
فلولا خليل ينسيني مرآة مدمعي
لحقت دموعي واعترتني عيوب
فليس قليلا أن أفارق موطنا
يبث نسيما تشتهيه قلوب
ويستمر الشاعر في شحن عواطفه الجياشة الراكنة في صدره، وهو يرى من الطبيعة مرتعاً خصبا لعبارته وتنويعاته، يحاول أن يستغلها لتأثيث فكرته النهائية، حيث الغيوم والجبال وهي تلبس ثوبا قشيبا عند المغيب، بينما وريقات البواسق تتمايل مع الريح في مشهد كوني جميل فيقول :
هناك الغيوم الغر تهوى وفوقها
جبال لبسن الثوب وهي تغيب
نظيفا كثوب الغادة الليل لامع
وما حوله في ذا الدلال يطيب
هناك مياه أينما يبدو مطلع
لها ، وهو واد والمحل جديب
مراعيها كالجنات باد جمالها
وماء رباها في الحقول سكيب
وريح الصبا وقت الغروب هبوبها
وليس لها حتى الصبح غروب
كما يزاوج الشاعر في قصيدته بين الطبيعة والجمال وبين الواقع والخيال تزاوجا جميلاً، ووصفا ً يترك تأثيره على الملتقي، من خلال عبارات شفافة واضحة، تشدك إلى مثابات الحدث وبدايات تنقلك رويدا رويدا إلى نهايات مغلقة (3) فيقول :
بدت لي من خلف الشعاب محاسن
شغفن فؤادي والمكان قريب
فكان لقلبي أن يخالف مقلتي
فكف فؤادي والعيون تلوب
وصنع أمالي يعيد مصيبة
فما عاد يهوى إلا حين يصيب
عليك فؤادي أن تكف عن الهوى
فحولك جمع يزدري فتخيب
سطور من السيرة الذاتية
في حي من أحياء بخديدا الفقيرة، وفي بيت متواضع من بيوتاتها ذات الطراز المحلي الشرقي القديم، أبصر الشاعر صليوا بن اسحق بن عبد الأحد بن القس إيليا حبش النور عام 1935 . أنهى دراسته الابتدائية في مسقط رأسه ثم انتقل إلى الموصل ليكمل دراسته في المتوسطة فالإعدادية، حيث تخرج منها عام 1954، فأهله ذلك لدخول الدورة التربوية، وبعد نجاحه فيها عام 1955 عين معلماً في ناحية (برواري بالا) التابعة لقضاء العمادية في محافظة دهوك . في عام 1959 عاد إلى بخديدا وعين معلماً في المدرسة التغلبية الابتدائية، ثم معاوناً لها عام 1965 فمديراً لها حتى عام 1978. نقل بعدها معلما ً إلى مدرسة قره قوش الثانية. أحيل على التقاعد عام 1985 وتوفي في 21ايار1991 اثر حادث مؤسف.وتثمينا لدوره وتسليط الضوء على شاعريته، وتخليدا لذكراه، قام مركز السريان للثقافة والفنون في بخديدا بطبع مجموعته الشعرية الوحيدة المخطوطة والمعنونة (ربيع العمر) في كراس جميل على نفقته الخاصة . ضم الديوان جل قصائده العمودية التي كتبها خلال حياته.كان هاجس الشعر يرافق الشاعر صليوا حبش منذ شبابه، فتخصص في مادة اللغة العربية وعكف على دراسة الأوزان الشعرية وتعلمها، وكتب لذلك قصائد عديدة وهو في المرحلة الإعدادية، فضلا ً عن الخواطر والنصوص الأخرى، حيث نظم في صيف عام 1954 أول قصيدة عمودية بعنوان (شريكا .. هم). كتب الشعر بأغراضه المختلفة ، في الوصف والحب والرثاء والوداع والحزن وغير ذلك من أغراض الشعر العربي، كما كتب شعراً في المناسبات الدينية والاجتماعية . وكان المشجع الأول له للسير في هذا الطريق، خلال دراسته في مدينة الموصل الشاعر الراحل شاذل طاقة وزير خارجية العراق فيما بعد . . إلى جانب كتابته الشعر كان الشاعر خطاطاً ماهراً .